مقال عن جحيم الرغبات لقداسة البابا شنوده


يتحدث قداسة البابا شنوده الثالث فى هذا المقال عن الرغبات وكيف تحول الرغبات احيانا حياة الانسان الى جحيم فهناك رغبات مقدسه ورغبات اخرى تسبب جحيم الى الانسان . تعالوا مع بعض نشوف قداسة البابا شنوده قال ايه عن جحيم الرغبات .

أيها القارئ العزيز، لتكن رغبتك الأولى هي الله، وباقي الرغبات داخلها. ولتكن رغباتك سببًا في سعادتك وسعادة الناس. واحذر من أن تعيش في جحيم الرغبات.. الرغبات العالمية التي تستعبد من يخضع لها.. بحث أحد الحكماء في أسباب السعادة والشقاء، فوصل إلى حقيقة عميقة في فهمها وهى:

إن سبب الشقاء هو وجود رغبة لم تتحقق.

قد يعيش الإنسان فقيرًا، ويكون سعيدًا في نفس الوقت. ولكن إن دخلت قلبه رغبة في الغنى ولم تتحقق، حينئذ يتعب ويشقى.. وهكذا قد يكون الإنسان مريضًا وراضيًا وشاكرًا، يقابل الناس في بشاشة وابتهاج، لا يشقيه المرض. لكنه يبدأ في التعب إن دخلت في قلبه رغبة في الشفاء لم تتحقق.

إن رحلة الرغبات داخل القلب تتعبه وتضنيه وترهقه وتشقيه.

إنه يشتاق، ويشقى في اشتياقه. يريد، ويجاهد في تعب لكي يصل: يعد العدة ويلتمس الوسائل. يفكر ويقابل ويكتب ويشكو، ويروح ويجئ، ويسعى ويتعب في سعيه.

وقد ينتظر طويلًا.. متى تتحقق الرغبة، يشقى في انتظاره. يصبر، ويضيق صدره، ويمل ويضجر، ويدركه القلق حينًا آخر. أو قد يتعبه الخوف، الخوف من الفشل. وقد يتعب من طياشة الفكر، ومن أحلام اليقظة، ومن مجرد آمال، مجرد قصور في الهواء، ولا يراها إلا إذا أغمض عينيه..! وقد ينتهى سعيه وتعبه إلى "لا شيء"، يحرم من رغبته التي يود تحقيقها، فيشقى بالحرمان

وأخطر من هذا كله، فإن آماله وأغراضه قد تجنح به عن طريق الصواب. فيتعلم بسببها الخداع، أو اللف والدوران، أو التزلف والتملق، أو الكذب أو الرياء، أو ما هو أبشع من هذا.. وقد صدق أحد الحكماء حينما قال: (لابد أن ينحدر المرء يومًا إلى النفاق، إن كان في قلبه شيء يود أن يخفيه).

و العجيب في هذه الرغبات الأرضية، أنها تشقى الإنسان حتى إن تحققت ذلك لأنها لا تقف عند حد..

قد يعيش الإنسان في جحيم الرغبات زمنًا، حتى إذا ما تحققت له رغبة، وفرح بها وقتًا ما، ما تلبث أن تقوده إلى رغبة أخرى، إلى خطوة أخرى في طريق الرغبات الذي لا ينتهي.

إن الرغبة عندما تتحقق يلتذ بها، تقوده اللذة إلى طلب المزيد (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). والوصول إلى هذا المزيد، قد يجره إلى تعب جديد.. ويكون كمن يشرب من ماء مالح.. وكما قال السيد المسيح: "من يشرب من هذا الماء يعطش". وعندما يعطش سيسعى إلى الماء مرة أخرى ليشرب. وكلما يشرب يزداد عطشًا. وكلما عطش يزداد اشتياقًا إلى الماء.. في حلقه مفرغة لا يستريح فيها ولا يهدأ.

صاحب الرغبة يعيش في رعب أما خوفًا من عدم تحقق رغبته أو خوفًا من ضياعها، إن كانت قد تحققت.

ومن القصص اللطيفة في هذا المجال أن رجلًا فقيرًا لا يملك شيئًا على الإطلاق، كان يعيش في منتهى السعادة، يضحك ملء فمه، ويغنى من عمق قلبه. فالتقى به أحد الأمراء وأعجب به، فمنحه كيسًا من الذهب. فأخذه الفقير إلى بيته، بدأت الآمال والرغبات تدخل إلى قلبه: أية سعادة سيبنيها بهذا المال! ثم لم يلبث الخوف أن ملك عليه، لئلا يسرق أحد منه هذا الذهب قبل أن يبنى سعادته به. فقام وخبأ الكيس وجلس مفكرًا. ثم قام وغير المكان الذي أخفاه فيه. ثم حاول أن ينام ولم يستطع، وقام ليطمئن على الذهب.. وفي تلك الليلة فقد سلامه، حتى قال لنفسه: (أقوم وأعيد هذا الذهب إلى الأمير، وأنام سعيدًا كما كنت). وهكذا أشقته الآمال والرغبات وما تحمل من حرص وخوف..



وإنسان قد يُقاد من رغباته.. رغباته تمثل نقطة ضعف فيه، يقوده الناس منها..

ما أشقى الإنسان الذي تكون رغباته في أيدي الناس، في حوزتهم أو في سلطانهم أو في إرادتهم!! بإمكانهم أن يحققوها له، وبامكانهم أن يحرموه منها. لذلك يعيش عبدًا للناس، تتوقف سعادته على رضاهم..

لهذا كان النساك يعيشون في سعادة، زاهدين لا تتعبهم الرغبات..

هؤلاء قد انتصروا على الرغبات، وارتفعوا فوق مستواها. ولم تعد لهم سوى رغبة واحدة مقدسة هي الحياة مع الله والتمتع به، وهذه لا يستطيع أحد من لناس أن يحرمهم منها.

إن سعادة الناسك الزاهد تنبع من دخله، من قلبه، من إحساسه بوجود الله معه. أما الناس فإنهم ليسوا المصدر الذي يمنحه السعادة، وبالتالي ليسوا هم السبب الذي يحرمه إياها.

إنه قد يسعد بهم من أجل محبته لهم، من أجل الحب الكامن في قلبه من جهتهم، وليس من أجل الخير الذي يعطونه إياه.. هذا الإنسان الذي تنبع سعادته من داخله، لا تصير سعادته رهنًا للظروف الخارجية، ولا يتحكم فيها الناس.

هناك أمثلة جميلة لأولئك الذين لم تكن لهم رغبة يحققها الناس، لعل في مقدمتهم مثال ديوجين الفيلسوف، ذلك الحكيم الذي كان يحبه الاسكندر الأكبر، وقد بلغ من فرط إعجابه به قال: (لو لم أكن الإسكندر، لتمنيت أن أكون ديوجين). في إحدى المرات جاء الإسكندر لزيارة ديوجين، وأطل عليه من نافذة صومعته وقال له: (أي شيء تريد يا ديوجين، وأنا أعطيك إياه ولو نصف مملكتي. فنظر إليه ديوجين في عمق وقال له: "أريد ألا تمنع عنى الشمس"! وانصرف الإسكندر وقد استصغر ذاته. لم تكن كل مملكته تساوى شيئًا في قلب ديوجين..

حقًا، أي شيء في العالم، يمكن أن تتعلق به رغبات الروحيين؟‍ لا شيء. ليس فيه سوى المادة والماديات، ومشتهيات الجسد والنفس. ولكنهم يعلقون رغباتهم بالله وسمائه، وبعالم الروح. لذلك ليس في العالم شيء يشتهونه في هذه الأرض، ولو انقلبت الأرض سماء الروحيون أعلى من رغبات العالم وأسمى. والعالم لا يعطيهم، بل بالحرى يأخذ منهم.

إنهم بركة للعالم، ومن أجلهم يرضى الله على الأرض.. ليست سعادتهم في أن يتمتعوا بما في العالم من رغبات، إنما سعادتهم في أن يملوا العالم خيرًا على قدر طاقتهم. إنهم نور للعالم يبدد ظلماته، وهم بهجة للأرض ونعمة. هؤلاء لا يعيشون في جحيم الرغبات، بل يسعدون برغباتهم الروحية النابعة من داخلهم، المتحققة دائمًا بسبب صلتهم الدائمة بالله..
ما أجمل أن يعيش الإنسان سعيدًا بالله. يمكن أن تكون له رغبات، ولكن لا تستعبده الرغبات.

تكون الرغبات مفتاحًا في يده ولا تكون أغلالًا في يديه..

بعض النقاط الهامه فى الموضوع :

صاحب الرغبة يعيش في رعب أما خوفًا من عدم تحقق رغبته أو خوفًا من ضياعها، إن كانت قد تحققت.

إنسان قد يُقاد من رغباته.. رغباته تمثل نقطة ضعف فيه، يقوده الناس منها.

الإنسان الذي تنبع سعادته من داخله، لا تصير سعادته رهنًا للظروف الخارجية، ولا يتحكم فيها الناس.